انتفاضة علي بن غذاهم – تونس 1864

تعتبر التجارب السابقة في تاريخ الشعوب والأمم كنزًا للأجيال التي تسعى للتغيير، وذلك أن هذه التجارب فيها من العبر ومن الدروس ما يجعل التحرك في واقعنا المعاصر مبني على بصيرة بمختلف الصور التي يمكن أن ترتسم أمامنا والتي في كثير من الأحيان تأتي متشابهة مع ما يوازيها في التاريخ، ورغم الاختلاف الظاهر للمكونات المتفاعلة فيها، لكنها في جوهرها متشابهة، إذ لا يتوقع لنفس المقدمات أن تأتي بنتائج مختلفة، وقد تنبه المؤرخ ابن خلدون لهذه الحقيقة مبكرًا، إذ قال في مقدمته:

إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق.

أدرك أعداء هذه الأمة وهذه الشعوب خطورة هذه الحقيقة، فعملوا على تشويه هذا التاريخ بما يوافق غاياتهم ومصالحهم، عبر قراءته قراءة مختلفة عن واقعه، أو تغييبه عن وعي الأجيال، وذلك بتقديم وجبة تاريخية مشوشة تُحدث نفور الناشئة من أسباب العزة الحقيقية في ماضيهم وتحدث الانبهار الشديد بالمحتل الغاصب، لتتابع الأجيال تحت التبعية تتابعٍ طوعي مقيد بتصوير وهمي عن الذات التاريخية.

لهذا من الضروري لكل أمة تسعى إلى التغيير أن تفتح صفحات التاريخ لتعيد اكتشاف سندها الحضاري، وتتعلم من نجاحات أسلافها في مواطن النجاح، وإخفاقاتهم عند الحياد عن الطريق، حتى تستثمر نقاط قوتها، وتتجنب تكرار أخطائها.

ومن تجارب الانتفاضات التي حدثت في أمتنا انتفاضة علي بن غذاهم سنة 1864 م، إذ تبرز أهمية هذه الانتفاضة أنها جاءت في لحظة تاريخية حساسة جدًا في تاريخ الأمة عمومًا وفي تاريخ تونس خصوصًا، وتكمن حساسيتها أنها مرحلة شهدت فيها الأنظمة الاجتماعية تغييرات عميقة، انعكست على الشعوب، وامتدت نتائجها وتأثيراتها إلى ما بعدها من أحداث وحتى إلى واقعنا المعاصر.

الأسباب التي مهدت لانتفاضة علي بن غذاهم

يمكننا تقسيم الأسباب إلى قسم من الأسباب الظاهرة والتي كان تأثيرها مباشر في حياة الناس، وقسم من الأسباب العميقة والتي مهدت لانحراف الوجهة الحضارية للبلاد.

الأسباب الظاهرة: سياسية واقتصادية واجتماعية

الأسباب السياسية

استقر الحكم في تونس منذ سنة 1705م إلى سنة 1957م للعائلة الحسينية، التي يتوارث السلطة فيها بالتداول الذكور بحسب كبر السن ضمن سلالة حسين بن علي مؤسس الدولة، وآل الحكم إلى محمد الصادق باي بين سنتي 1859 و 1882م، وقد عرفت هذه الفترة تصاعد للفساد خاصة وأن الباي كان منشغلًا في ملذاته عن إدارة الشأن السياسي، مما فتح الباب لصعود الانتهازيين، وأعطى فرصة لتغوّل الوزير مصطفى خزنه دار، الذي استغل ضعف تكوين الباي وغيابه، فعمل على إنشاء إدارة سياسية تكون تحت سلطته وولائه، فأسس سنة 1863 مجلسًا خاصًا يضم 25 عضو، مهمته النظر في الأمور قبل أن تعرض على المجلس الأكبر، مما سهل له التخلص من معارضيه من حاشية الباي، وأبرزهم صهراه الجنرال حسين وخير الدين، واللذان قررا مغادرة البلاد للابتعاد.

الأسباب الاقتصادية

حنايا زغوان التونسية.

انتهج القائمون على البلاد التونسية طريقة التداين لسد العجز المتأتي عن الفساد، ومثلت ديون الباي من الدول الغربية والفائض الذي يترتب عليها عبئًا كبيرًا على الشعب، كما لم تكن هذه القروض ذات مردود فعلي سوى بعض المشاريع التي لا تفيد الشعب بقدر ما تفيد السلطة، ومن هذه المشاريع ترميم حنايا زغوان لإيصال الماء العذب إلى العاصمة، والتي تفاجأ سكانها أنهم سيفرض عليهم دفع ثمن المياه المستهلكة ما أثار سخطهم، كما أثير سخط سكان الأرياف عندما أصبح أعوان الباي يمنعونهم من استغلال المياه ويحرمونهم من تحويل صرف مياه أراضيهم لفائدتهم.

كما كان مشروع البرق الذي بدأ إنشاؤه يعكس عند سكان البلاد خاصة القبائل الداخلية خطوة أخرى لمزيد إحكام قبضة البطش لعساكر وعمال الباي، وسرعة وصول الأخبار التي سيتبعها تدخلهم، وتوّجت الأزمة الاقتصادية برفع ضريبة المجبى، وهي ضريبة تسلط على السكان الذكور البالغين، ما عدا أصيلي مدينة تونس والقيروان وسوسة والمنستير وصفاقس، والجنود المنتدبين والقدامى، والطلبة والعلماء، وأعوان الباي والعجز، إذ رفعت من 36 الى 72 ريال، ووقع تعميمها على كافة الرعايا.

ما دفع القبائل نحو التمرد على جامعي المجبى ورفض دفع الأداء الجديد، كما كثرت الضرائب المسلطة على الشعب، كضريبة العشر وهو أداء عيني على الحبوب، والقانون وهو أداء خاص بأشجار الزيتون والنخيل، والمكوس والخروبة… ويقوم القُياد بجمع الضرائب التي يقتطعون أجورهم مباشرة منها، مع إضافة القُياد ومن تحتهم لمعاليم اعتباطية بغية تحصيلها لأنفسهم، ليتحول جمع هذه الضرائب مصدر من مصادر ثرائهم على حساب آلام الشعب وحاجته، لذلك تفشت الرشوة والتنافس للحصول على مناصب كالقيادات بالتقرب لأعيان القصر بشتى الوسائل.

تلقى الباي والحاشية الحاكمة غليان الشعب بعدم اكتراث وعدم استعداد للنزول إلى مطالب الناس، حتى أن وفدًا من سكان العاصمة يضم ألف ومئتي شخص توجهوا إلى قصر باردو وطلبوا من الباي الرجوع عن المستحدثات من البدع المستجلبة من أنظمة أوروبا والإذن بتحجير تصدير الحبوب، لكن الباي رفض طلبهم وزجّ بقادتهم في السجون.

الأسباب الاجتماعية

كان السكان يتبعون العامل إداريًا والقاضي عدليًا، وكان لهم حق الالتجاء إلى الباي لفض قضاياهم في آخر الأمر، أما الآن فقد أصبحت معاملتهم مع المحاكم، وذلك في إطار التوجه نحو مركزية الدولة، ما يكلف سكان المناطق البعيدة عناء التحول إلى العاصمة، وأصبح الفرد مأكولًا في رحلته للتقاضي من سائر أعضاء تلك المحاكم، ما مثل بالنسبة لسكان المناطق الداخلية مشوار من الشقاء، كما قلص هذا التحول من السلطة المحلية، وكان هذا في نفس الاتجاه من الانصياع إلى النموذج الغربي والنزول تحت ضغوط القنصليات الأجنبية.

الأسباب العميقة: إصلاحات ودستور عهد الأمان وأصول الهيمنة الاقتصادية والعسكرية

دستور عهد الأمان.

الإصلاحات ودستور عهد الأمان

كان تأثير النموذج الغربي قد بدأ يزحف على بلدان المسلمين، ومرت عملية إعادة صياغة النظام الاجتماعي عبر شعارات الإصلاح، لكن هذا الإصلاح اتخذ أوروبا كوجهة، التي كانت قنصلياتها تمارس الضغط على قصر باردو من جهة، ومن جهة أخرى كان الانبهار بالثقافة الغالبة قد بدأ في تكوين غشاوة تحجب مميزات الأمة الحضارية وثوابتها شيئًا فشيئًا.

فقد أحدث أحمد باي سنة 1856 ضريبة المجبى، وقد كون إقرار المجبى نقمة عند السكان، لأن فرضها مخالف للشريعة الإسلامية التي لا تفرض على المسلمين مثل هذه الضريبة، بل تفرضها على أهل الذمة من اليهود والنصارى الذين يعيشون بين أظهر المسلمين، وكانت هذه الضريبة تبقي تميز أهل الملة المحمدية بدينهم قائمًا في بلادهم ومجتمعاتهم مع بقاء الحقوق التي كفلها الوحيين لأصحاب الديانات الأخرى.

ثم جاءت إصلاحات عهد الأمان، والأمان هنا لا يعني أمن أهل البلاد وضمان حقوقهم، إنما يعني إعطاء الأجانب من غير المسلمين القادمين أساسًا من أوروبا، نفس الحقوق والحريات للسكان الأصليين من المسلمين، ما فتح باب التملك وحرية التجارة بدون قيود تضمن كرامة أهل البلاد أمام الأجانب.

وجاء دستور عهد الأمان، كأول دستور على النمط الغربي، والذي قنن فيه الباي الامتيازات الكبيرة التي سيحصل عليها الرعايا الأجانب كحقّ شراء الأراضي والاستقرار النهائي بالبلاد التونسية، ما فتح الباب للاقتصاد الأوروبي للنزول بثقله، على حساب الأهالي ومقدراتهم وأنشطتهم.

وقد أورد الشيخ محمد الشاذلي النيفر تعقيب في كتاب مسامرات الظريف ص 402، حول حادثة انسحاب عدد من الفقهاء من مجلس دعاهم إليه الباي مع عدد من الوزراء، وطلب منهم أن يشرحوا فصول دستور عهد الأمان ما يلي: “وأما ثانيًا فإن انسحابهم من المجلس الشارح لقواعد عهد الأمان يرجع إلى أنهم بدا لهم أن الأغلبية ترمي إلى جعل فصول للحكم في بعضها ما لا يمت إلى الشريعة السمحة. فاستغلال سماحة الشرع الحنيف لا تؤدي إلى تحلل من نصوصه القطعية حتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله”.

لذلك لم يغادر شعور توجس السكان، مختلف الإصلاحات التي يقوم بها الباي أو يعلن عملته عنها، مخافة أن يكون فيها ما ينافي ثوابتهم وهويتهم، لتجذر الإسلام في البلاد وتمسك أهلها بقيمهم، ولنفرتهم من نقض عرى الشريعة وتوغل الأجانب واستحواذهم على بلادهم.

الهيمنة الاقتصادية

كان عمل كل من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا على استغلال حالة الإنفاق التي تشيع في الطبقة السياسية لإغراق البلاد في المديونية، ما يتبعه جر الشعب لدفع ديون الحاكم، ما يعني مزيد من الضغوط والقيود المفروضة على السكان لدفع قروض لا تعود عليهم بنفع، كما حصل التجار الأوروبيين والتجار اليهود خاصة والذين كان معظمهم تحت حماية القوى الأوروبية والجاليات الغربية المقيمة في تونس على عديد من الامتيازات خولت لهم الهيمنة على التجارة والسيطرة على حركة البضائع، ولأن السلع المستوردة لا تخضع إلا لمعاليم جمركية بسيطة، مع معافاتها من الضرائب المحلية، ما دفع البلاد إلى حالة من الارتهان.

لقد وفرت حكومة الباي ظروف الهيمنة الاقتصادية على البلاد، إما بما كانت تسميه إصلاحات تمكن قانونيًا من إزالة الضمانات التي تقرها الشريعة لحفظ حقوق الشعب، واستبدالها بقوانين جديدة تزيد من سلطة الأجنبي على استباحة الاقتصاد المحلي، إما بالامتيازات التي توسع سطوة ممثلي ساسة الغرب والتجار خاصة اليهود، ليكونوا أثقال متتالية على عاتق الشعب.

الهيمنة العسكرية

في خطوة نحو التحديث، والذي كان عبارة عن عمليات استنساخ للنظم الأوروبية، تأسست في عهد أحمد باشا باي المدرسة الحربية بباردو سنة 1840 وهي مدرسة لتكوين الضباط، ليوكل إدارتها للمستشرق الإيطالي ألاي كاليغاريس، ثم تولى إدارتها سنة 1858 الضابط الفرنسي جون باتيست كمبنون، وأشرف على التدريس فيها إطارات فرنسيين وايطاليين وإنجليز، وفي بادرة جديدة اعتمد التدريس في جانب كبير على اللغات الأجنبية خاصة الفرنسية، وقد تخرج من هذه المدرسة خير الدين باشا والجينيرال رستم والجينيرال حسين، ويبدو واضحًا أثر متخرجي مدرسة باردو في نزعة التحديث.

إن الاعتماد على الكوادر الغربية لتحديث العسكر، وإعادة تشكيله وفق النمط الغربي، ليصبح العسكري في بلاد المسلمين تلميذًا لعدوه التاريخي، الذي يقوم بتأسيس تصوراته وترتيب ولائه لا وفق شخصيته الحضارية، لكن وفق آليات وأساليب الغرب، هذا يعتبر صناعة لشخصيات عسكرية ترى عدوها أستاذها، تنبهر بكل ما فيه، مهما كان أثر هذه التبعية الحضارية على ارتهان البلاد سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.

انتفاضة علي بن غذاهم 1864 م

انطلاق الثورة

وفي ربيع سنة 1864م بدأت الثورة، واجتمعت القلوب على رفض الظلم المجحف، وعلى دفع الاستبداد، وانتفض الشعب في وحدة شعورية دافقة، تمثل فيها غضبه وآلامه، والتف أهل ماجر على رجل منهم اسمه علي بن غذاهم، ثم انضمت إليه قبائل عيّار والفراشيش وونيف، واستطاع أن يوحّد غربي البلاد تحت قيادته، بينما تولى السبوعي بين محمد السبوعي قيادة الثورة في جلاص وقاد فرج بن دحر في بطن رياح، وتواعدت القبائل على عدم التعرض لقوافل التجارة وأهل السبل بسوء أو بالحرابة، وأن من تعرض إليهم تكون يد الثوار كلهم عليه، واستوصوا بضبط كل جهة ببعض أهلها لعدم تمكين السفهاء من ترويع أمن الناس، وعدم مقاتلة من لم يقاتلهم من جنود الباي وجامعي الضرائب، وأعلنوا أن هدفهم هو عودة الجباية إلى ما كانت إليه.

انتشرت الثورة وعمّت كامل البلاد في وقت وجيز ما عدا العاصمة، وفر عمال الباي في الجهات إلى باردو، باستثناء الجنرال فرحات عامل الكاف وأولاد ونيفة الذي قتل في معركة دارت بينه وبين الثوار في 16 أبريل، بعد أن فر من المعركة عدد من الصبايحية.

قام الثوار بتعطيل الأسلاك البرقية التي تنقل الأخبار، وقد حدث أن حوصر ثلاثة من مستخدمي البريد الفرنسيين في مدينة الكاف، وتدخل الجنرال الفرنسي ديفوا بإرسال قائد دائرة سوق أهراس من الجزائر، ليخرجهم من بين جموع من المسلمين الغاضبين وعلى وشك الفتك بهم.

وقطع الثوار المواصلات بين تونس وسوسة وسيطروا على القيروان المدينة الرمزية في تاريخ الأمة والبلاد، وامتدت الثورة في بوادي وقرى الساحل ومدنه أمام فرار عساكر الباي، ما اضطر الباي إلى استدعاء ثلاثة آلاف من العسكر المتقاعد، والذين لم يكن بقدرتهم مواجهة بأس محاربي البوادي وشجاعتهم.

وفي 21 أبريل أصدر الباي منشور يقتضي إلغاء مضاعفة ضريبة المجبى وإصلاح العدلية ووقف العمل بما جاء في دستور عهد الأمان كخطوة لتهدئة الثورة.

موقف الدول الغربية وخاصة فرنسا من الثورة

كان الثوار يرفعون العلم الأخضر وهو رمز الجهاد في المدن المحررة، مما زاد مخاوف الفرنسيين من تحول حركة الثورة إلى جهاد ضد النصارى والأجانب، وارتفاع مستوى المطالب إلى التحرر الصريح، وتواتر فرار ساكني الأحياء اﻷوروبية واليهودية خوفًا من ردة الفعل الشعبية، مما دفع بدول الغرب إلى إرسال بوارج حربية للنقاط المهددة أكثر من غيرها، فرست على موانئ البلاد سفن وبوارج من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، ونسقوا بينهم لنقل الرعايا الأجانب في حال الحاجة، ولنقل أعوان الباي الفارين إلى قصر الباي أو الراغبين في الذهاب إلى أوروبا، ومنهم القائد نسيم القابض العام للحكومة التونسية الذي فر بعد نهبه لعشرين مليون من الأموال التي كان مستأمنًا عليها.

وفي الأثناء عملت الدول الساعية للهيمنة على تونس في استغلال الوضع السياسي، فرنسا التي كانت تسعى إلى مزيد من النفوذ في البلاد، ضغطت على الباي لإقصاء خزنه دار والتراجع عن ما جاء في عهد الأمان، مع التذكير أنها أي فرنسا كانت قد ضغطت في ما قبل لإجراء إصلاحات عهد الأمان، خاصة بعد حادثة قتل الباي لليهودي وما أثير حولها بغية تمرير قانون يساوي بين مختلف الناس بغض النظر عن دينهم، وفي نفس الوقت عملت فرنسا على مراسلة الثوار والعروش وايهامهم أنها معهم، حتى أنها أرسلت لعلي بن غذاهم ثلاث رسائل لم يرد على أي منها.

كما خشيت فرنسا تدخل طرف يكون منافسًا لأطماعها في تونس، فضلًا عن أطماع الإنجليز والطليان، وخشية على وجه الخصوص من الباب العالي بعد إرساله لبارجة حربية رست على موانئ البلاد.

كانت سياسة إنجلترا تدعم بقاء علاقة الباي والباب العالي، لأنها رأت في ذلك بقاء لمصالحها لاسيما وأنها تمد شباكها على سياسة الأستانة، لذلك كانت في تنافس مع السياسة الفرنسية. ولأن نجاح الثورة يعني إجهاض كل المخططات وقطع كل القيود التي عملت قوى الهيمنة على تقييد البلاد بها ليتسنى الانقضاض عليها وعلى مقدرات شعبها فيما بعد.

المصالحة بين الباي والثوار وموقف فرج بن دحر

كانت المساعي السياسية حثيثة لإخضاع الثوار إما بالترهيب أو الترغيب، أو بالعمل على مد قنوات الحوار بين السلطة والثائرين عبر وسائط تمر من خلالها مبادرات المصالحة، ومن هذه المبادرات ما طرحه الشيخ مصطفى بن عزوز والذي قال في لقائه مع بن غذاهم:

أنت لست بقائم تطلب ملكًا، وزعمت أنك جامع عصابة شاكية لكف عادية جهالها، وقد زال السبب فلا بد أن يزول المسبب وقد عطلتم الناس على السعي في ابتغاء رزقهم.(2)

ولقيت هذه المبادرة تأييد شيوخ الزوايا الذين كانوا قد انتصروا للثائرين، وكان من نتائجها إصدار قرار إسقاط الباي للجيايبة إلى عشرة ريالات، كما أسقط من ضريبة العُشر وترك الأداء على ما يباع من غير الأسواق.. وبعد هذه المبادرة حدث نوع من انفراط عقد الثوار وتوحدهم، تزامنًا مع عمل الباي وحاشيته وعساكره على استعادة ما انفلت من قبضتهم.

لكن لم يستسغ فرج بن دحر قائد الثورة في الشمال الغربي المصالحة التي حدثت بين بن غذاهم والباي بوساطة كبار الزوايا والمشيخة، ورأى فيها مكيدة للالتفاف على الثورة، واشتم رائحة الغدر، فقرر عدم الانصياع إلى الصلح، وواصل مع من تبقى معه التمرد والكفاح، وهاجم ممثلي السلطة ومن قبل بالاستسلام، وقد حدثت بينه وبين بن غذاهم مراسلات حذره فيها من مغبة هذه المصالحة بينما حاول الأخير إقناعه بالاستسلام.

وقد لاحت بوادر نقض العهد حين اكتشف بن غذاهم أن الأمان الذي طرحه عليه الباي ووزيره حزنه دار محض سراب، وذلك إثر قيام محلة الباي بمحاولة القبض على قاتل عامل الكاف، دار بعدها معركة بين جيش الباي بقيادة رستم وعدد من أتباع بن غذاهم، انتهت بهزيمة الثوار وفرار بن غذاهم إلى الجزائر حيث فرضت عليه السلطة الفرنسية المحتلة الإقامة الجبرية في مدينة قسنطينة.

أما بن دحر فقد غدر به مسعي بن جلال بن مسعي بعد فراره إلى بيته لثقته به على ما كان بينهما من صحبة، فقبض عليه وأوثقه وسلمه إلى عامل قفصة، ما أثار سخط قبيلة الهمامة الذين انتقموا لفعلة مسعي بالهجوم على بيته وتقطيع ما به وأخذ ما وجدوه، ومقت مسعي بين أهله، ليقع بعدها اقتياد بن دحر إلى العاصمة، وهناك لقي من التعذيب ما تقشعر له الأبدان، وفاضت روحه إلى بارئها في ديسمبر 1864م داخل سجنه.

أما بن غذاهم فقد تمكن من الفرار من إقامته الجبرية في قسنطينة ولاذ مستجيرًا بأهله في جبل الرقبة، ولم يفلح الباي باستمالة أعيان الرقبة بالمال لتسليمهم له، حتى سمع بن غذاهم بمرور الشيخ أبي عبد الله محمد العيد من المنطقة في رحلته لأداء مناسك الحج، فذهب إليه وطلب منه الشفاعة عند الباي فقبل الشيخ، لكن الباي مكر للقبض عليه فخرج على وفد ظاهره لاستقبال أبي عبد الله محمد العيد لكن حقيقته للإطاحة ببن غذاهم، وقد حدث ذلك ولم يراعي الباي ذمة الشيخ، واقتيد علي بن غذاهم إلى بطحاء باردو حيث أحاط به سفهاء القوم وأظهروا الشماتة، ثم سجن في باردو، وتم نقله سنة 1866 إلى سجن حلق الواد الذي يعرف بالكراكة، وتناقلت الأخبار أنه مات فيه مسمومًا يوم 10 أكتوبر 1867.

حملة الباي لزجر الأهالي

محمد الصادق باي.

كما هي دومًا، تبقى ضريبة العز أقل بكثير من ضريبة الذل، فقد قاد الباي ووزيره حزنه دار بعد التأكد من الإجهاز على الثورة، حملة الجزر، وهي حملة قمع وحشية استهدفت المدن التي شاركت في الثورة بدون تفرقة ولا رأفة، وسطرت مشاهد تعذيب الشيوخ والرجال وإهانة الأهالي والاعتداء على الميسورين لابتزاز أموالهم وتهديدهم بالنيل من شرف أعراض نسائهم وما وقع من الاغتصاب في كتب التاريخ بمداد من الأسى، وأرغمت قوات الباي الميسورين من الأهالي على الاقتراض من اليهود بفائض ربوي ضخم أعيا كاهل الشعب وزاد من حالة الفقر.

وتلي الانقلاب على الثورة سنين من الجفاف والقحط، كثرت فيها الأوبئة واعتاد فيها الناس على رؤية نُعُوش الموتى يوميًا تغادر للمقابر، وتفشت حمى العفن في الحاضرة، والأمراض في القرى والقبائل، وعم الكساد البلاد… أما أصحاب القصور فقد واصلوا في غيهم وفسادهم، وقادوا البلاد إلى مزيد الارتهان في قبضة الأجانب، حتى أعلن عن تأسيس الكوميسيون المالي وهو مؤسسة مالية تجعل من اقتصاد تونس تحت تصرف دول الهيمنة لتنظيم تسديد ديون فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، ما مهد لعصر الاحتلال المباشر الذي جاء تحت غطاء حماية المصالح الفرنسية والغربية، ووقع محمد الصادق باي على معاهدة باردو 1881م ليبدأ عصر الوصاية الفرنسية.

ختامًا

بين أحداث التاريخ وحركات الشعوب وتمرد الثائرين، تبرز لحظات فارقة، يطلب فيها الطغيان المصالحة، ولطالما كان قبول أو رفض هذه المصالحة، محوريًا في الأحداث التي تأتي بعدها، ولطالما كانت ضريبة العز أهون من ضريبة الذل، وأن حركة الشعوب في التغيير لابد أن تتجاوز الأسباب الظاهرة الى الأسباب العميقة، حتى تحدث التغيير الحقيقي وتنتزع الباطل من أبعد نقاطه.

المصادر

  1. تعقيب الشيخ محمد الشادلي النيفر في كتاب مسامرة الظريف، ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم- ص 402 
  2. المصدر السابق- ص 417
  3. إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ل أحمد بن أبي الضياف.
  4. جان غانياج – ثورة علي بن غذاهم.

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى