عن جون روكفلير وذهبه الأسود.. سرطان العالم الحديث

إن المتأمل في العالم الحديث يلاحظ قيامه بالكامل على صناعة النفط: الكهرباء تُولّد من حرق مشتقات النفط، والسيارات تعمل بالوقود، والمعامل والمصانع ومعظم المنتجات المصنوعة حولنا تعتمد على مشتقات ومنتجات بترولية في صناعاتها، والحروب تحصل لأجل حقول النفط، تقريبًا كل شيء في هذا العالم يحصل لأجل النفط.

لم تعد الحياة اليوم ممكنة دون هذه المشتقات النفطية. إن الرافض لاستخدام أي منتجات تحوي مشتقات نفطية سيتعيّن عليه الخروج إلى الصحراء والموت وحيدًا. والسخرية في الموضوع أنّه سيحتاج سيارة تعمل بالوقود للوصول هناك.

لكن كيف تطوّر النفط إلى أن يصل إلى هذه المرحلة؟ وكيف تحوّل من مادة خام يتم استخراجها من أعماق الأرض، إلى مادةً تدخل في كل شيءٍ في حياتنا اليومية؟ هل كان تطور استخداماته طبيعيًا بريئًا؟ أم كان نتيجة جهودٍ من أشخاص وشركات أخرى؟ هذا ما نكشفه في هذا التقرير.

تاريخ صناعة النفط

استخراج النفط واستخدامه قديم جدًا في التاريخ يرجع إلى القرن الرابع الميلادي، لكن أحدًا لم يكن يستخدمه بالطريقة المُستخدمة في هذا العصر، بل كان يستخرج من مناطق توافره السطحية ويستخدم كزيت في مواد معينة. لكن قصّته في العصر الحديث ترجع إلى عام 1853م في أحد المناجم ببولندا حيث تم اكتشاف تكرير النفط لأوّل مرّة في التاريخ (وهي العملية التي يتم فيها فصل النفط عن الشوائب والغاز المرافق له ثم تحويله لمشتقات مختلفة يمكن استعمالها في العشرات من الصناعات).

سرعان ما انتشرت الفكرة في شتّى أنحاء العالم وبدأ السباق للحصول على النفط. وهي العملية التي كانت تُدر أرباحًا خيالية وقتها؛ كان العالم يعتمد على الحطب أو الفحم من أجل التدفئة أو توليد الحرارة للكهرباء، وعندما جاءت مشتقات النفط المختلفة حلّت المشكلة حيث كانت أكثر صحّية وفعالية من تلك البدائل الموجودة.

لكن ذروة النفط الحقيقية ستبدأ عام 1863م، حيث جاء شاب أمريكي يدعى “جون روكفلير” كان قد استلف مبلغ 1000$ من والده بنسبة ربا 9% سنويًا ليبدأ حياته في قطاع الأعمال. قام روكفلير بتأسيس شراكة مع عددٍ من أصدقائه ورجال الأعمال الآخرين لدراسة قطاع النفط وكيفية استخراجه وتخزينه وشحنه إلى المستهلكين في أنحاء الولايات المتّحدة. في 1870م وبعد سنواتٍ من التخطيط، أعلن روكفلير بنفسه عن تأسيس شركة “النفط المعياري” (Standard Oil Company).

النفط المعياري.. شركة صاغت العالم الحديث

جون روكفلير.. مؤسس شركة النفط المعياري
جون روكفلير.. مؤسس شركة النفط المعياري

قصّة شركة النفط المعياري هي قصّة العالم الحديث بأكمله. في 1870م كانت السِمة العامة هي سيطرة الإقطاعيين والتجّار الصغار على بعض حقول النفط، ثم بيعه لمصانع أخرى حيث يتم تكريره، ثم تقوم تلك المصانع ببيع المشقات النفطية بعد تكرير النفط إلى شركات ومصانع أخرى مختلفة. شركة النفط المعياري كانت الأولى من نوعها حيث استلمت مهام الاستخراج والتخزين والتكرير والتوزيع والتسويق بنفسها. كانت هي أول شركة كاملة تتخصص بقطاع النفط وتقوم بكل ما يتطلبه استخدام النفط من الألف إلى الياء، نتيجةً لذلك، أرباحها بتلك الفترة كانت فوق المتوقّع.

تأسيس شركة النفط المعياري تأسيس شركة النفط المعياري

لكن تلك الشركة لم تكن فقط مجرّد شركة تستخرج وتكرر وتبيع النفط بنفسها، بل كانت تعمل على الترويج للنفط كالمصدر الرئيسي للطاقة والحياة الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين بديلًا عن المصادر اﻷخرى التقليدية، وتقصي أي منافسين لها. كانت صناعة النفط نفسها موضع الشكوك.

كان هناك عدد من الشركات الأخرى الصغيرة التي بدأت العمل في الولايات المتّحدة ومختلف مناطق العالم على استخراج وبيع النفط ومشقتاته تمامًا كشركة النفط المعياري. لكن بما أنّ شركة النفط المعياري كانت عملاقة وتملك فائضًا من الأموال، فقد كانت قادرة ببساطة على ترخيص أسعارها لفترة معيّنة ودفع المستهلكين لشراء مشتقات النفط من عندها، مما يسبب خسائر للمنافسين وانسحابهم من السوق، ثم تعود الشركة لتُرجع الأسعار كما كانت.

كانت هناك شكوك حول ما إذا كان النفط سيكون هو سمة القرن العشرين، وعن مدى استمراريته في كونه مهمًا للحياة اليومية. وكضربة حظّ، جاء تصنيع سيارة “بِنز موتورفاغن” (Benz Motorwagen) عام 1888م لتكون أول سيارة تجارية في العالم كقبلة حياة لصناعة النفط، لأن تلك السيارة كانت تعمل بالبنزين (أحد مشتقات النفط). بدأ الاحتياج إلى مشتقات النفط في الازدياد تدريجيًا في مختلف أماكن العالم مع كونه يستخدم في توليد الحرارة والكهرباء وكوقود للسيارات.

إلّا أنه مع بدايات القرن العشرين، كانت السيارات الكهربائية (التي لا تعتمد على الوقود) تشكّل حوالي 30% من مختلف سيارات الأجرة في الولايات المتّحدة. كانت السيارات الكهربائية بديلًا أرخص من السيارات العاملة بالوقود وأصغر وأقل إصدارًا للأصوات وأسرع، وكانت نسبة استخدامها في ازدياد. لحسن الحظّ مرّة أخرى، اكتُشف حقل نفطي جديد عملاق في مقاطعة تكساس الشرقية الأمريكية، مما أدى إلى انخفاض أسعار النفط وتوفّره بشكل رهيب، مما جعل السيارات العاملة بالوقود أرخص للاستعمال اليومي من تلك التي بالكهرباء على الرغم من كل مساوئها.

كاريكاتير ساخر نشره الإعلام في بدايات القرن العشرين عن احتكار شركة النفط المعياري لصناعة النفط

نتيجةً لهذا، استمرت أرباح شركة النفط المعياري بالصعود، وهو ما أدى بالنتيجة إلى ارتفاع ثروة روكفلير حيث كان المالك الرئيسي لها. كانت شركة النفط المعياري تسيطر على 90% من إنتاج الولايات المتّحدة من النفط. ثروته العملاقة التي جناها كانت مطمع الكثيرين. حينها، بدأت الصحافة هجومها على الرجل الثري وطالبت بفتح تحقيقات حوله بتهمة الاحتكار، كانت صورة روكفلير الإعلامية سيئة وقتها حيث كانت شركته تُصور على أنها أخطبوط عملاق ينهب جميع خيرات وثروات الكوكب من النفط. نتيجةً لذلك، قصت المحكمة الأمريكية العليا عام 1911 بحلّ شركة النفط المعياري بتهمة الاحتكار وخرق قوانين المنافسة العادلة.

قُسّمت شركة النفط المعياري إلى عشرات الشركات الصغيرة الأخرى. إلّا أنّ ما بدا كعقاب لروكفلير كان في الحقيقة مكافئةً ضخمةً له. بما أنّه كان المالك الرئيسي لمعظم أسهم شركة النفط المعياري الأمّ فقد كان كذلك المالك الرئيسي لمعظم الشركات الصغيرة التي تفرّعت عنها، وبما أنّ أرباح هذه الشركات الصغيرة في السنوات التي تلت التقسيم قد تضاعفت عدة مرات، فقد تضاعفت ثروته الكلّية عدة مرات كذلك:

انقسام شركة النفط المعياري انقسام شركة النفط المعياري

في صدمةً للعالم بأسره، بعد سنوات من الانقسام وعام 1913م، صار روكفلير أول ملياردير في العالم الحديث. بل بلغت ثروته في أقصاها ما يعادل اليوم 330 مليار دولار، وهو ما شكّل وقتها 2% من الناتج القومي الأمريكي في وقتٍ كان متوسّط دخل الفرد الأمريكي سنويًا هو 520$ فقط!

ولادة قطاع العلاقات العامّة وتطويع التعليم والطبّ

أندرو كارنيغي وجون روكفلير ومؤسساتهما “الخيرية”

بسبب صورة روكفلير السيئة في الإعلام منذ بداية 1900م، وكونه أغنى أغنياء العالم في مجتمعٍ من الفقراء، احتاج إلى سلسلة من الاستراتيجيات لتحسين صورته العامّة. هنا، وظّف روكفلير خبيرًا صحفيًا يدعى “Ivy Lee” لاختراع ما يعرف اليوم بـ”العلاقات العامّة” (Public Relations). صار إيفي مستشارًا رئيسيًا لروكفلير ونصحه بعدة استراتيجيات لتحسين صورته.

على نفس الإعلام الذي كان يهاجم روكفلير، صُوّر الملياردير الشهير وهو يساعد الفقراء ويعطيهم الأموال، ويستمع لشكاويهم واحتياجاتهم. لكن هذا لم يكن كافيًا ليقنع المجتمع الأمريكي بمدى جدية وصدق روكفلير برغبته في مساعدتهم. كان عليه إعطاؤهم ما يطلبونه بالضبط: المال.

هنا، خطى روكفلير أول خطواته العملاقة على مسار تحسين صورته عبر تبرعه بمبلغ 80 مليون دولار لإنشاء جامعة شيكاغو الشهيرة، والتي تعتبر اليوم من أفضل جامعات العالم في الاقتصاد. ساعده في ذلك أيضًا صديقه “فريدريك غيتس” وهو رجل أعمال ثري آخر. سويًا، عمل الشريكان على إنشاء العشرات من المؤسسات والجمعيات في أمريكا والتي كانت تُعنى بالتعليم. كان الرجلان يمشيان إلى المؤسسات والجامعات والشركات الأمريكية ويعطونها مبالغ كبيرة من المال، ويقولون لهم:

إننا نعطيكم كل هذا المال مجانًا على شكل هبة، في المقابل، ألا يمكن أن تسمحوا لنا بضم ممثل أو اثنين من مؤسساتنا إلى مجلس الإدارة الخاص بكم؟

قبل فترةٍ طويلةٍ من ذلك تعرّف روكفلير أيضًا على “أندرو كارنيغي” (Andrew Carnegie) وهو رجل أعمال كان يملك سككًا حديدية على امتداد الولايات المتّحدة ورأسماليًا آخر يتحكّم بصناعة الحديد. استخدم روكفلير خدماته لينقل نفطه من وإلى مختلف الولايات الأمريكية. كان أندرو مليارديرًا آخر وقتها بل وتجاوزت ثروته ثروة روكفلير لبضع سنوات. عام 1905م، قام أندرو بتأسيس “مؤسسة كارنيغي” والتي تُعنى بتطوير التعليم والطبّ. قام روكفلير كذلك بإنشاء “مؤسسة روكفلير” لتكون مظلة جامعة لجميع مشاريعه الخيرية، تبرّع روكفلير لتلك الجمعية بمبلغ 100 مليون دولار. بالإضافة إلى ذلك، أسس روكفلير “مجلس التعليم العام” ليُعنى بمتابعة شؤون النظام التعليمي الأمريكي ومنحه مبلغ 180 مليون دولار.

كانت مهمة هذه الجمعيات والمؤسسات العمل على هيكلة النظام التعليمي الأمريكي وتخصيص قطاع الطبّ بحيث يقوم الأوّل بتعليم الناس الحد الأدنى من المهارات المطلوبة للعمل في مصانع هؤلاء الرأسماليين الأثرياء بينما يقوم الثاني بالتخلّي عن الطبّ التقليدي القائم على مواد وعلاجات طبيعية وتطوير مدرسة الطبّ العلمية التجريبية (والتي بدأت لأول مرّة في 1910م، بعدها تم التخلي عن مدرسة الطب القديمة واعتبارها “طب بديل” مليئة بالخرافات والعلاجات الغير مثبتة رغم فعاليتها). تدريجيًا، انتقلت هذه السياسات والأفكار والمشاريع إلى جميع مناطق العالم لتصبح معيارًا لصناعتي التعليم والطبّ إلى يومنا هذا.

ليست مؤامرة، بل أعمال مربحة

قطاع الطبّ مثلًا، عام 1910م عملت كلٌ من مؤسسة روكفلير ومؤسسة غارنيغي على تمويل تقرير يعرف بـ”تقرير فليكنر”. وهو مراجعة لقطاع الطبّ أعدّه الباحث الأمريكي “أبرهام فليكنر” يقترح فيه شكل النظام الطبّي الذي يجب اتباعه في الولايات المتّحدة ويراجع فيه معظم الجامعات والمراكز الطبية في أمريكا وكندا. في تقريره، اقترح فليكر إغلاق جميع المراكز الطبية والجامعات التي تدرّس الطبّ الطبيعي (أو ما يعرف حاليًا بالطب البديل) والاعتماد فقط على الطبّ القائم على استخراج مواد مجرّبة وفق البحث العلمي من المشتقات النفطية. ونصح الجامعات والمؤسسات الطبية باعتماد معايير أعلى لتدريس الطبّ.

قد تبدو هذه الحركة بريئة وطبيعية للوهلة الأولى، إلّا أنّك إذا علمت أنّ 25% من كل برميل نفط مباع في العالم يتم استخدامه في الصناعات الدوائية في أدوية نأخذها نحن البشر فقد تتغير نظرتك تجاه الموضوع. تقريبًا جميع الأدوية التي تُباع اليوم هي أدوية تحوي مشتقات نفطية، وهناك العشرات من التقارير حول العالم عن عدم فعالية كثيرٍ من هذه الأدوية بل وتسببها (وغيرها من المنتجات المشتقة من النفط) في أمراض حديثة، كالسرطان مثلًا. هل سمعت يومًا عن وجود مرض السرطان قبل 1000 سنة؟ تكاليف معالجة مرضى السرطان في الولايات المتّحدة تبلغ أكثر من 150 مليار دولار سنويًا. هل يمكن أن يكون هناك رابط بين كل هذه الأشياء يا ترى؟

لا يكون هذا غريبًا إن رأيت إعلانات العقد الثالث من القرن العشرين حيث ينصح 20 ألف “فيزيائي” أمريكي من مدرسة الطب الحديث بالتدخين وكونه مفيدًا للصحّة، ويحثّون النساء على المشاركة:

السجائر التي تحوي النيكوتين والقطران والعشرات من مشتقات النفط الأخرى التي من المفترض ألّا تصلح للاستهلاك الآدمي، نجحت الشركات الرأسمالية عبر قرن من الزمن في حشوها حتّى في أفواه البشر. قطاع الغذاء مشمولٌ في ذلك أيضا. معظم أطعمة اليوم مغلّفة بالبلاستيك أو معلّبة مع مواد حافظة لضمان فترة صلاحيتها. جميع هذه المواد مصنوعة من مشتقات نفطية. الأدوية والفيتامينات ومسكّنات الآلام (مثل الأسبرين) كلّها تحوي صناعاتٍ بيتروكيماوية.

كل هذه الاستخدامات لا يمكن الجزم بأنّها مؤامرة على مستوى العالم من مجموعة مليارديرات أثرياء لزيادة ثرواتهم أو حركة سرّية لها علاقة بالماسونية كما يشيعُ القول، بل كما شرحنا، مجرّد استخدام مناسب للعلاقات العامّة واستثمار الملايين من الدولارات في مؤسسات الطبّ والغذاء والتعليم. مع مرور الوقت، يصير استخدام هذه المنتجات واقعًا مفروضًا.

اليوم، بدأت عدة دول محاولة التخلّص من المنتجات البترولية شيئًا فشيئًا. ألمانيا مثلًا ستمنع جميع السيارات العاملة بمحركات الاحتراق (التي تعمل بالوقود) بحلول 2030م، ودول مثل السويد والنرويج تموّل مشروعاتٍ ضخمة للاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لإنتاج الكهرباء على مستوى البلاد عوضًا عن الاعتماد على الوقود. وهناك عدة حركات ومؤسسات حول العالم للعودة للمنتجات الطبيعية التي لا تحوي مواد حافظة، والعودة إلى الأدوية الطبيعية التقليدية التي لا يدخل فيها أي مشتق بيتروكيماوي.

لكن السؤال الذي نتركه للقارئ ليتأمل فيه: هل احتاج العالم قرنًا من الزمن حيث جرّبت الشركات الرأسمالية بمختلف أنواعها كافّة منتجاتها وتجاربها عليه، لكي يصل إلى نقطة استخدام منتجات طبيعية أكثر نقاءً وصحّة؟

المصادر

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى