يوم من دون الفيسبوك.. لم يلق الانقطاع المؤقت لعملاق التواصل الاجتماعي ذلك الصدى المؤثر

إيان بوغوست

ترجمة/ ربى الخليل

تحرير/ عبد المنعم أديب

في عام 2004[1]، صدر فيلم تحت عنوان “يوم من دون المكسيكيّ” ( A Day Without a Mexican ) يطرح فيه “سيرجيو أراو” تصورًا في إطار ساخر؛ مفاده ما الذي سيطرأ على ولاية “كاليفورنيا” في حال اختفاء أي أثر لمجتمع المهاجرين المكسيكيين قاطبة؟! لا ريب أن اختفاء العديد من مدبرات المنزل وعُمَّال المزارع والمُعلمين والبُستانيين والطهاة ورجال الشرطة سيوقف حال الولاية.

تحوَّل يوم 4 أكتوبر إلى يوم غابَ عنه “الفيسبوك” على أثر انقطاع خدمات الشركة، ولم يقتصر الأمر على خروج الموقع الإلكترونيّ عن الخدمة، بل امتدَّ الانقطاع إلى كافة أدواته؛ وكأنها سقطت في غياهب النسيان، حتى إن مُوظَّفيه عجزوا عن دخول مقارِّ أعمالهم.

وسرعان ما تدفَّقَ سيلٌ من الأنباء السيئة حول “الفيسبوك” على مدار الأسابيع القليلة المنصرمة. استهَّلَتْها صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” بسلسلة فضائح على غرار فضائح شركات التبغ، تمحورت حول نهج الشركة المُتمثِّل في الهيمنة الصارمة، مُرورًا بجلسات الاستماع في “الكونغرس”، لتُتوَّجَ بمقابلة مُتَلْفَزَةٍ في برنامج “60 دقيقة” عُرضت يوم الأحد مع موظفة سابقة تطرقت فيها إلى إلمام الشركة بكلِّ الأضرار التي تسببت بها دون أن يرجف لها جِفن.

بالمقابل أعرب “كيفن روز” في مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” عن اعتقاده أن “فيسبوك بات أوهن مِمَّا اعتقدنا”! .. فيما وصلت تكهُّناتُ البعض الآخر إلى أنَّ الانقطاع بالأمس مردُّهُ إلى تعرُّض الموقع للتهكير. في نهاية المطاف نال “فيسبوك” -على خلفيَّة تهرُّبه من القوانين الرسميَّة- نصيبَه العادل من عميل فاسد (لم يكن كذلك[2]). وفي مواجهة الأمواج العاتية التي عصفت به، بدا “فيسبوك” -في منظور البعض- على شفا هاوية، وأنَّ الانقطاع ما هو إلا مُؤشِّرٌ جليٌّ على اختراق تعرَّضَ له.

لكنْ هذا محض خيال. سبق أنْ ألمحتُ في مقالاتي أنَّ البنية التحتِيَّة تتعلَّق بكُلِّ ما هو غائبٌ عن مجال رؤيتك، إلى أنْ تتهاوى. ومع ذلك حتى إنْ لاحظت خللًا في بنية شيء ما -إنْ كان جسرًا أو الفيسبوك نفسَه- فهذا لا يقتضي أنَّ تغيُّرًا سيطرأُ. فالذاكرة تتبخَّر سريعًا، وتختفي البنية التحتية عن مرمى العين مُجددًا.

ما عليك إلا أنْ تُمعِنَ في عدد المرات التي تعطلت فيها شبكات الكمبيوتر لدى شركة طيران -مثلًا-، وقد يمتدُّ العطل لأيام عديدة، ويَعلَقُ المسافرون حول العالَم. ماذا يحدث بعد ذلك؟ تدبُّ الرُّوح في تلك الشركات العملاقة بعد تعثرها، ويتكفَّلون بتعويض أعمالهم المتراكمة، ويستأنفون عمليات التزوُّد بالوقود والتحميل والطيران. ما الذي كنت تنتظره منهم؟! أنْ يُسلِّموا الرَّاية دون مقاومة! وأنْ تستغنيَ أنتَ عن خطوط الطيران أمام مستقبل افتراضيّ لسكك الحديدية فائقة السرعة أو التخلي عن السفر الموفر للوقود الأحفوري؟![3]

إنَّ انقطاع الخدمة على نطاق واسع، غالبًا ما يُجدِّدُ التأكيد على تعويل الناس على الخدمة التي توقفت. ويُدركون حجم اتِّكالهم على الخدمة؛ سواءً في إطار الطائرات أم الطاقة الكهرَبَائيَّة أم ضبط الحرارة في أماكن العمل أم خدمة توصيل البيتزا بلحم البط والبيض، أم شبكات التواصل الاجتماعيّ؛ والتي سُمِّيتْ بهذا الاسم لأنها غدَتْ -للسيِّء أو للأسوأ- وسيلةً رئيسيَّةً لتفاعُل الناس مع بعضهم ومنصةً لتبادل الأفكار.

كان أحد زملائي في صحيفة “أتلانتك” قد كتب مقالًا خلال فترة الانقطاع؛ حول توقف تطبيق الرسائل “ليست سيرف”[4]، مُحدِثًا شعورًا بالهلع جرَّاءَ اختفاء الأماكن المعتادة لأعضائه وشُركاء عمله. كما أنَّ الشركات التي يتركز عملها من خلال المنصة -ومنها المتاجر والمطاعم- انقطعت تمامًا عن عملائها.

على ذلك، الأمر لا يتوقف عند الفيسبوك بل يضم خوادم تطبيقَيْ “الانستغرام” و”الماسينجر” بل الأهم منهما “الواتس أب”؛ الذي غدا منظومة اتصالات هاتفية ورسائل نصية في معظم أرجاء العالم. الموضوع أبعد من كونها تطبيقات بحد ذاتها، إذا ما عرفنا أنَّ ثَمَّةَ بنيةً تحتيَّةً خفيَّةً لتسجيل الدخول إلى “الفيسبوك” وأنظمة تتبُّع وعمليات التكامل الأخرى التي تخدم مواقع الكترونية لمنظمات كبيرة وصغيرة.

انتقل فيلم “يوم من دون المكسيكيّ” -وبغضِّ النظر عن فرضيَّته الواعدة- من النقد اللاذع إلى مُحاكاة تهكُّميَّة غريبة. حتى إن صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” وصفت النتيجة المُستخلَصَة بكونها “غير مُجدية” وأشبهَ بسؤال طُرِحَ دون أنْ يلقى ردًّا. لقد عرَّى الفيلم حقيقة اتِّكال الناس بشكل كامل على البنية التحتية الخفيَّة المتمثلة بالعمالة المكسيكية، لكن قد يتضافر هذا الاتِّكال مع الرغبة في التغيير، على سبيل المثال من خلال سياسة العمالة والهجرة المعدلة. ومع ذلك فالرغبة وحدها غير كافية لبلوغ النتيجة في إطار سحريّ، ناهيك عن أنَّ الفيلم لم يكن له ذلك الصدى على السياسة والفن، وهو أمر غاب عن ذهن الناس.

وهو ما يحاكي تأثير غياب “الفيسبوك” عن يوم أمس الذي لم يكُنْ دائمًا -أو حتى مؤقتًا- سوى إذكاء نار بعض أعمدة التكنولوجيا كهذه. وفي الوقت الذي كتبتُ فيه هذه المقالة حتى الانتهاء منها عاوَدَ “الفيسبوك” ظهوره مجددًا، رادعًا أحلامًا قصيرةً لمُنتقديْهِ. وفي أثناء خسارة أموال ضخمة تُقدَّر بتريليون دولار خلال ساعات الانقطاع القليلة، غرق مليارات المستخدمين على مواقعه في العمل أو النوم أو تسوق الخردل.

وأمَّا مَن غفل عن ملاحظة انقطاع الخدمة فهُم أكثر عرضةً للذعر أو التذمر من التمعن بالنهاية الافتراضية للفيسبوك، فمَن كان جاهلًا في عمل شبكات الكمبيوتر تراه يُسارع إلى إغراق شركات الشبكات ومُزوِّدِيْ الخدمة بمُكالمات غاضبة ومرتبكة حول عدم قدرة المُستخدِمين على الولوج إلى “الفيسبوك” عن طريق هواتفهم. وفي نهاية المطاف عادت شارات الموقع الزرقاء بالظهور في كل تطبيقاتها وخدماتها، واستأنف سُكَّانُ الأرض نشر منشوراتهم وإعجاباتهم والتصفح إلى ما لا نهاية وبلا أية وجهة[5].

[1] ننشر هذا المقال لما به من تشبيه ذكيّ؛ حيث يقوم المقال على تشبيه “الفيسبوك”، وكافَّة مواقع التواصل الاجتماعيّ بالبنية التحتيَّة؛ أيْ ذلك البناء الذي لا نلحظه، ولا نشعر به، ولا يدخل تحت نظرنا الراصد؛ إلا أنَّه هامٌّ جدًّا، بل لا يُمكن الاستغناء عنه في أيّ حال. لذلك عندما انهار موقع “الفيسبوك” في يوم أثَّر تأثيرًا بالغًا في كلّ الناس، ودعا إلى مُراجعة قيمته الحقيقيَّة لدى الناس جميعًا، وما الذي صار إليه موقع؛ سجَّلتَ دخولك عليه للتسلية فإذا به يلتهم حياتك كلَّها. (المُحرِّر)

[2] يقصد الكاتب تعضيد موقف المُخترق، وفي كلامه انتقادٌ واضحٌ جدًّا للموقع وسياساته المُتلاعبة بالعُملاء. (المُحرِّر)

[3] يقصد أنَّك ستعود إلى هذا البنية التحتيَّة؛ حتى إنْ فقدتْ ثقتَك مرَّةً أخرى، ولنْ تحيد عنها إلى تلك البدائل البعيدة (كحُلم التواصل القديم الذي لا يستطيع الكثير مِنَّا مُعايشته في ظلِّ ضغط الفيسبوك ومواقع التواصل الحديثة). (المُحرِّر)

[4] تطبيق غربيّ لإدارة الأعمال. (المُحرِّر)

[5] ينتهي الكاتب نهايةً أقرب إلى المأساويَّة أو السوداويَّة؛ حيث تجري الحياة كما كانت، “كأنَّ شيئًا لمْ يكُن” -كما يقول القول المُعتاد-، ويمضي الناس في استخدام “فيسبوك” دون أن يفكِّروا إلى أين يمضي بهم هذا الطريق؟ (المُحرِّر)

المصادر

المقال المصدر.

ربى الخليل

مترجمة محترفة، عملت في مراكز بحثيَّة، وأعمل الآن في شبكة رابتلي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى