5 نواقض لإشاعات الظلم العثماني!

يتعمد الغرب نشر الإشاعات لتشويه الحكم العثماني باعتباره الحامل الأخير للخلافة الإسلامية، وقد تعرض تاريخهم الكبير لإشاعات عديدة ندحض بعضها التي تتمحور حول الظلم العثماني.

الضرائب المعتدلة

أما عن فرية الظلم فتعج كتب المؤرخين بما يدحضها، ففي حديثه عن خصائص الحكم العثماني في العصر الأول (من الفتح في القرن 16 إلى القرن 19) في البلاد العربية يقول الدكتور محمد أنيس: “إن نظام الحكم العثماني في الشرق الأوسط بصفة عامة كان عمليًا للغاية ولم يكن ظالمًا أو عنيفًا. وكانت القاعدة أن كل إيالة تعيش على دخلها الخاص وتدفع إلى خزانة الدولة قدرًا معقولًا جدًا من الجزية ولذلك لم يكن التشريع الضرائبي العثماني مرهقًا لرعايا الدولة. فالسلاطين العثمانيون أدركوا أن الضرائب البسيطة وأساليب الإدارة البسيطة في صالح كل من الحكام والمحكومين”.

وعند حديثه عن المساوئ التي ارتكبها الحكم العثماني كالنزاع بين الأحزاب وتعدي الهيئات المحلية على الحكومة المركزية قال مستدركًا: “ولكن رغم هذا فإن الإدارة العثمانية المالية كانت أمينة إلى حد معقول، كما أن الفلاحين لم يعانوا ما عانوه من حكم دول قبل وبعد العثمانيين”.

وعند حديثه عن بقية المساوئ كالمحسوبية والرشوة وبيع الوظائف قال: “إن مجتمعات الشرق الأدنى كانت على شفا الانهيار قبل دخول العثمانيين مباشرة إلا أن دخول العثمانيين أخّر هذا الانهيار، فقد سار العثمانيون على نظام ضرائب مخفف فأنقذوا الفلاحين والتجار وبسطوا حالة من الأمن والاستقرار تمتع بها الشرق الأدنى حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.”

ويقول برنارد لويس إنه في البلاد العربية:

جلب الحكم العثماني السلام والأمن بعد الكابوس العنيف للحكم المملوكي الأخير.

السمعة الحسنة لدى الفلاحين

العثماني

ويذهب المؤرخ السوفييتي نيقولاي إيفانوف إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول: “إن سمعة العثمانيين كانت في الأوج عند مطالع القرن السادس عشر، ففي الشرق كما في الغرب على حد سواء ازداد الإعجاب بالعثمانيين ولاسيما في الأوساط الشعبية المضطَهَدة والمستغَلة”.

 وينقل عن المؤرخ الروسي كريمسكي من بداية القرن العشرين قوله إنه في البلقان والمجر وأوروبا الغربية وروسيا: “برزت مجموعات كبيرة من الناس، كانت بأفكارها ومشاعرها، وبدرجات متفاوتة، لا تخاف غزوات العثمانيين وفتوحاتهم، بل تدعو إليها صراحة”.

وأما في العالم العربي “فقد وقف الفلاحون إلى جانب العثمانيين”، ومع أن هذا التعاطف الشعبي استند إلى المبالغة في تصور الكمال لدى المجتمع العثماني فإنه: “في الواقع، لم تكن النظم العثمانية الاجتماعية الطوباوية (أي المثالية) مجرد سفسطة كلامية، بل كانت أساسًا للعمل”، وعلى أساس الشعارات العثمانية التي تمكنت “وبقدرة سحرية من استقطاب مشاعر الفلاحين وجماهير سكان المدن، بنيت على قاعدتها النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للباب العالي بخاصة قراءة فلاحية فريدة من نوعها للمبادئ الأساسية للإسلام وأفكاره عن المساواة، والأخوة بين الجميع، والعدالة الاجتماعية، والوفاق، والعمل كمصدر وحيد لتلبية الحاجات المادية للإنسان، وإدانة مظاهر الترف والإثراء، وضرورة التواضع في العيش والابتعاد عن الإسراف، وتحاشي استغلال الإنسان للإنسان”، ويؤرخ ذلك إلى مطلع القرن السابع عشر.

هل يمكن أن يجتذب الظلم المهاجرين؟

العثماني

ويؤيد كلام برنارد لويس ما قاله إيفانوف ويتحدث عن الهجرة بصفتها اقتراعًا بالأقدام وكانت وجهتها الدولة العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي من الغرب إلى الشرق وليس العكس الذي يحدث في أيامنا، ولم يكن اللاجئون المسلمون واليهود هم وحدهم المستفيدين، بل استفاد المسيحيون من أصحاب الانشقاقات الدينية والسياسية، ولم يكن كل أولئك أيضًا هم المستفيدين الوحيدين من الحكم العثماني: “إذ أن الفلاحين في المناطق التي غزيت قد تمتعوا، بدورهم، بتحسن كبير في أوضاعهم، فقد جلبت الحكومة الامبراطورية العثمانية الوحدة والأمن مكان الصراع والفوضى، كما ترتبت على الغزو نتائج اجتماعية واقتصادية هامة”.

ويقول إن الإمبراطورية العثمانية كانت ذات سحر قوي إضافة إلى كونها عدوًا خطرًا “فقد كان المستاؤون والطموحون ينجذبون إليها بالفرص التي تتاح إليهم في ظل التسامح العثماني، وكان الفلاحون المسحوقون (في أوروبا) يتطلعون بأمل إلى أعداء أسيادهم” وحتى القرن التاسع عشر “كان الأوروبيون الذين يزورون البلقان يعلقون على أوضاع فلاحي البلقان الحسنة وعلى رضاهم عن هذه الأوضاع، وكانوا يجدونها أفضل من الأوضاع السائدة في بعض أنحاء أوروبا المسيحية، وكان الفرق أوضح بكثير في القرنين الخامس عشر والسادس عشر”.

ويقارن بين الحكم العثماني والحكم الأوروبي بقوله: “وعندما انتهى الحكم العثماني في أوروبا، كانت الأمم المسيحية التي حكمها العثمانيون عدة قرون لا تزال هناك، بلغاتها وثقافاتها ودياناتها وحتى إلى حد ما بمؤسساتها، كل هذه الأمور بقيت سليمة وجاهزة لاستئناف وجودها الوطني المستقل، أما إسبانيا وصقلية فليس فيهما مسلمون أو ناطقون باللغة العربية”، ويستنتج كواترت من تتبع الازدهار الاقتصادي في البلقان عشية انفصال بلاده عن الدولة العثمانية وتردي أحوال هذه البلاد بعد انفصالها، أننا لا نستطيع أن نعزي ظهور الحركات الانفصالية في البلقان إلى تردي أحواله الاقتصادية في ظل العثمانيين.

تطبيق العدالة على الأوروبيين وإلغاء المظالم السابقة

العثماني

ويؤكد أندري كلو ما سبق بالقول: “إن دهاء العثمانيين كان يتمثل في حكمهم الناس بالعدل والاعتدال”، وإن أقنان أوروبا لم يكونوا يخفون أحيانًا ترحيبهم برايات النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأن “حال الفلاح في الإمبراطورية العثمانية أحسن من حال سكان الأرياف في أوروبا، ويشهد على ذلك أولئك الغلاظ الشداد في بلاد النصارى الذين يهربون إلى دار الإسلام بعد إحراق الدور والضيع، انتقامًا من ظلم سيدهم، وتشهد على ذلك حفاوة الأهالي عند اقتراب جند السلطان”.

وفي المجر كان القرويون في بؤس شديد دفع كثيرًا منهم لانتظار الأتراك وعدهم محررين، وإن الاحتلال التركي يسّر على السكان في البلقان وبلغاريا ما كانوا يلاقونه من جبروت الإقطاعيين البلغار والصرب وظلم الهيئات الدينية، وفي تقديمه لكتاب كله عن السلطان سليمان القانوني يقول الأستاذ البشير بن سلامة إن السلطنة العثمانية اشتهرت بالنزوع إلى العدل وكان شعار السلاطين هو: “لا دولة بدون جيش، ولا جيش بدون مال، ولا مال بدون رعايا راضين، ولا رعايا بدون عدل، إذ بدون عدل لا وجود للدولة” فكان العدل قضية عملية محورية ترتبط بسيادة الدولة وليست مجرد شعار نظري.

ويؤكد بيري أندرسون أن الدولة العثمانية لم تحاول فرض الإسلام على المسيحيين في البلقان، وأن الفلاحين البلقانيين “وجدوا أنفسهم فجأة وقد تحرروا من الخضوع المهين والاستغلال الأرستقراطي في ظل حكامهم المسيحيين، وانتقلوا إلى وضع اجتماعي كان في معظم النواحي أكثر راحة وحرية منه في أي مكان في أوروبا الشرقية آنذاك”، وأن الحكم العثماني قضى على طبقة النبلاء المحلية وأزال لعنة الحروب الأرستقراطية المتواصلة في الريف.

ويقول المؤرخ العربي الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى إن الحكم العثماني كان أحسن من سابقه (البيزنطي) بالنسبة إلى اليونانيين، وإن العثمانيين كانوا أفضل من الطغاة البيزنطيين “إذ أنهم بوجه عام كانوا جادين وأمناء ومستقيمين، في الوقت الذي كانت فيه حيويتهم في معالجة شئون الدولة أعجوبة العالم، فالحكومة العثمانية كانت قوية ومستقيمة، كما كانت سياستها المالية، من حيث جباية الضرائب، معقولة في الوقت الذي ساد فيه الأمن والنظام، بالإضافة إلى أن القانون الإسلامي كان يطبق بدون تحيز إلى حد كبير، ومن المسلّم به أن الإمبراطورية العثمانية كانت طيلة القرن الذي تلا سقوط القسطنطينية تحظى بحكم أفضل مما كانت ترزح تحته معظم أوروبا المسيحية، كما أنها كانت أكثر من أوروبا رخاء، على حين أن رعاياها -مسلمين ومسيحيين- كانوا يتمتعون بقسط من الحرية الشخصية ومن نتاج كدهم يفوق ذلك الذي كان ينعم به رعايًا الدول الغربية، والفضل في ذلك يرجع إلى حد ما إلى كون الأغلبية العظمى من موظفي الدولة من أصل مسيحي”، ويقول أيضًا إن شعوب الدولة العثمانية كانت حتى القرن السادس عشر أسعد حالًا مما كانت عليه قبل الحكم العثماني “فكانت تتمتع بقسط أوفر من الأمن والعدالة وبنظام ضريبي أخف وطأة.

فقد تمتع أهل الذمة في ظل الدولة العثمانية بحرياتهم الدينية واعترف محمد الفاتح للمسيحيين واليهود والأرمن بتشكيل طوائف دينية لا تتدخل الدولة في شئونها تعرف باسم الملل، ولكل منها حق استعمال لغتها الخاصة وإنشاء معاهدها الدينية والتعليمية، وتحصيل الضرائب وتسليمها للخزانة المركزية وعقد المحاكم الخاصة إلا فيما يتعلق بالجرائم الكبرى وأمن الدولة، فإلى جانب المسلمين كانت الدولة تشتمل على يونانيين أرثوذكس وأرمن جريجوريين ويهود وجميعهم كانوا يعيشون حياة آمنة في نطاق الإمبراطورية العثمانية بالصورة التي أثارت دهشة الأجانب”.

وبعد الحديث عن بعض القيود التي فرضت على أهل الذمة استدرك بالقول إنهم “كانوا أسعد حالًا من الأقليات الدينية في غربي أوروبا. ومما يدل على تسامح العثمانيين هجرة كثير من اليهود السفارديم من إسبانيا والبرتغال إلى داخل الإمبراطورية العثمانية (كان عدد اليهود في حيهم بالآستانة سنة 1590 بعد قرن من بدء الهجرة من الأندلس حوالي عشرين ألفًا وفقًا للمؤرخ كارل بروكلمان). كما هاجر كثير من الفلاحين من ألمانيا والنمسا والمجر إلى داخل الدولة لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسية” وعندما كانوا يتعرضون لظلم أو قسوة غير قانونيين فقد كان ذلك بسبب فترات الفوضى والفساد نتيجة ضعف الدولة وليس نتيجة نظم منهجية أقرها العثمانيون.

اجتذاب الكفاءات ورعاية المواهب

العثماني

ومن الصفات الفريدة التي تحلى بها الحكم العثماني ما رواه السفير النمساوي في بلاط السلطان سليمان جيسلان دي بوسبك الذي بُهر برعاية العثمانيين للمواهب واهتمامهم باجتذابها وتنميتها حتى أصبح كل إنسان يعتمد على مجهوده ويفخر بأنه وصل إلى المعالي بقدراته الذاتية رغم تواضع أصله مما حرم عديم الشرف والجاهل والكسول والعاطل من تبوء المناصب الرفيعة، “وهذا هو السر وراء نجاح العثمانيين في كل عمل أقدموا عليه، فتحولوا إلى جنس ساد العالم كله، واتسعت رقعة أراضيهم إلى هذا الحد”.

في الوقت الذي كانت فيه أوروبا كما يصفها، تعتمد الأحساب والأنساب في تقويم البشر، وكانت تهتم برعاية مواهب الحيوانات أكثر من مواهب الرجال، وتفصيل ذلك يطلعنا على سر من أسرار قوتنا السابقة وضعفنا الحالي: لقد خدم اوجير جيسلين دي بوسبيك سفيرًا لإمبراطورية آل هابسبورغ النمساوية في الدولة العثمانية بين سنتي 1554-1562، أي في عصرها الذهبي زمن السلطان سليمان القانوني، وكتب في سنة 1581 كتابًا عن سنوات تجربته فصل فيه انطباعاته عن الدولة العثمانية و”مدح النخبة المدنية والعسكرية العثمانية باعتبارها نخبة تُختار على أساس الكفاءة” كما يقول المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان.

ومما قاله بوسبيك في هذا المجال: “لا يدين أي رجل بمكانته إلى أي شيء سوى جدارته الشخصية وشجاعته، ما من أحد يتميز عن الآخرين بفعل ميلاده، ويسبغ الشرف على كل إنسان وفقًا لطبيعة واجباته والمناصب التي شغلها، وعلى ذلك كان الشرف والوظائف والمناصب الإدارية عند الأتراك (العثمانيين) مكافآت على القدرة والجدارة، ولا يحصل غير الشرفاء، والكسولون، والمسترخون أبدًا على تميز، وإنما يبقون مغمورين ومحتقرين، لهذا نجح الأتراك (العثمانيون) في كل شيء حاولوا عمله وأصبحوا عرقًا سائدًا ويوسعون يوميًا حدود حكمهم”، ويعقب المؤرخ لوكمان إن بوسبيك يلاحظ بالمقابل باشمئزاز ملحوظ أن “طريقتنا مختلفة تمامًا، ليس هناك مكان للجدارة، وإنما يعتمد كل شيء على الميلاد، فاعتباراته وحدها هي التي تفتح الطريق إلى موقع رسمي عال”.

ويقارن في مكان آخر بين اهتمام العثمانيين بالإنسان واهتمام الأوروبيين بالحيوان، فيقول “إن الأتراك يُسرّون إذا هم ظفروا برجل فريد المواهب فكأنهم كسبوا تحفة ثمينة وتجدهم لا يبخلون بأوقات عملهم ولا بجهدهم للأخذ بيده، خاصة إذا رأوا أن له استعدادات كبيرة في فن الحرب.

أما نحن فمختلفون كثير الاختلاف عن الأتراك لأننا إذا وجدنا كلبًا أو بازًا أو حصانًا، نُسرّ بذلك ولا نألو جهدًا في الوصول به إلى منتهى الكمال، ولكن إذا صادف أن وجدنا رجلًا له استعدادات فائقة فإننا لا نكلف أنفسنا عناء استكمال قدراته، ولا نفكر في وجوب تربيته، فنحن نجد متعة فائقة عندما يقدم لنا حصان أجلّ الخدمات وكذلك باز أو كلب روّضا الترويض اللائق بينما يحصل الأتراك على خدمات أفضل بكثير من إنسان ربي تربية كاملة مادام أن طبيعة الإنسان هي أجلّ بالاعتبار من طبائع الحيوانات”.

ويلاحظ أن بلادنا الإسلامية تركت هذه الفضائل العثمانية وتلقفها الغرب ولهذا نجح وتفوق علينا في الوقت الذي تراجعنا فيه وهُزمنا حين تمسكنا برذائله السابقة، فأصبحت مكانة الإنسان محددة بانتمائه ومولده وليس بكفاءته، كما أن الحيوانات في بلادنا كالجمال والخيل والماعز والحمام تلقى رعاية أكثر من البشر رغم الوفرة المادية التي تنفق بسفاهة، فيفضل أبناؤنا الهجرة إلى الغرب للبحث عن التقدير والاحترام لأن النابغين منهم لا يحصلون على الرعاية التي يحصل عليها التيس الجميل في بلادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى